سردية الوحدة في مواجهة خطاب التفكيك.. قراءة في كتاب “وحدة اليمن تاريخياً” لـ”سيف علي مقبل”

استعرض الكتاب لـ”يمن ديلي نيوز” خليل الزكري: يأتي كتاب “وحدة اليمن تاريخيا” للباحث والمؤرخ، سيف علي مقبل بوصفه أحد الأعمال المرجعية التي سعت مبكراً إلى تفكيك خطاب التجزئة، والرد تاريخياً على محاولات تصوير الانقسام اليمني كأمر طبيعي أو أصيل.
فالكتاب لا يتعامل مع الوحدة بوصفها حدثاً سياسياً معاصراً، بل كحقيقة تاريخية متجذرة في الجغرافيا والهوية ومسار الدولة اليمنية عبر العصور.
ينطلق المؤلف من فرضية مركزية مفادها أن الوحدة هي الحالة الطبيعية لليمن، وأن كل أشكال الانقسام لم تكن سوى حالات طارئة، فرضتها صراعات سياسية داخلية أو تدخلات خارجية.
ويهدف الكتاب إلى إعادة بناء الوعي التاريخي لليمنيين، بعيداً عن السرديات المجتزأة التي تُسقط الحاضر على الماضي.
القيمة الفكرية للكتاب
يمثل كتاب “وحدة اليمن تاريخياً” مساهمة مبكرة في تفكيك الخطاب الانفصالي من منظور تاريخي، وإعادة الاعتبار للتاريخ اليمني كوحدة متصلة. ومواجهة محاولات إعادة إنتاج الهويات المجتزأة.
ورغم صدور الكتاب في ثمانينيات القرن الماضي، تحديدا قبل ثلاث سنوات من قيام الوحدة اليمنية، فإنه يظل راهنا، خاصة في ظل عودة مشاريع التفكيك، ما يمنحه قيمة مضاعفة اليوم، ليس فقط كمصدر تاريخي، بل كنص في معركة الوعي والذاكرة الوطنية.
ففي اللحظات التي تتكاثر فيها مشاريع التفكيك، لا يعد الرجوع إلى التاريخ ترفاً ثقافياً أو حنينا إلى الماضي، بل يتحول إلى فعل مقاومة معرفية.
وكتاب “وحدة اليمن تاريخيا” ليس نصاً بريئاً من هذا المعنى. لقد كُتب في زمن التشطير، لكنه موجه – على نحو يكاد يكون نبوئيا – إلى زمننا الراهن، حيث يعاد إنتاج الانقسام بأدوات جديدة، وبخطاب أكثر حداثة وخطورة.
صدر الكتاب، في ذروة استقطاب أيديولوجي حاد بين شطري اليمن. ومع ذلك، فإن لغته لا تحمل روح التحريض، ولا تسقط في خطاب التعبئة، بل تتكئ على التاريخ بوصفه حقلاً صلباً يمكن عبره تفكيك الأوهام السياسية، لا تبريرها. أهمية الكتاب لا تأتي فقط من محتواه، بل من السياق الذي خرج فيه.
في زمن تتعاظم فيه صرخات الانفصال والتقسيم، يظل كتاب “وحدة اليمن تاريخيا” لسيف علي مقبل عملاً مرجعياً موجهاً إلى قلب السؤال: هل الوحدة حالة تاريخية أم خيار سياسي؟.
صدر الكتاب عن دار الحقائق في بيروت عام 1987، ويُقدَّم بمقدمة سياسية بارزة كتبها آنذاك عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، وزير الدفاع في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية العميد صالح مصلح قاسم، وهو ما منح الكتاب مفارقة تاريخية بالغة الدلالة، ووقعا خاصا: مزيجا من المراجعة التاريخية والرؤية السياسية من زاوية جنوبية ثورية.
مقدمة الكتاب.. موقعها ودلالاتها
تحتل مقدمة العميد صالح مصلح قاسم مكانا محوريا في نسق الكتاب: تقديم من قيادي وسياسي جنوبي رفيع، يربط بين قراءة التاريخ ووظائف السياسة الراهنة.
تسجل المقدمة تأييداً لمضمون الكتاب في إبراز الوحدة كحقيقة تاريخية ومقاومة لمحاولات فرض تقسيمات إدارية وسياسية فرضتها قوى خارجية أو محلية متعاونة مع مصالح عابرة للحدود.
فوجود مقدم للكتاب من هذا الوزن يعطي الكتاب “بعداً عملياً”؛ إذ لا يبقى كتابة تاريخية محايدة بقدر ما تتحول إلى خطاب ذا أثر سياسي في زمن صراع متصاعد.
لا يمكن التعامل مع مقدمة العميد صالح مصلح قاسم بوصفها إجراءً شكلياً أو مجاملة سياسية. فالمقدمة، في ذاتها، نص سياسي كثيف، يعكس وعياً مبكراً بخطورة اللعب بالتاريخ، وبالأخص تحويل الانقسام إلى سردية مؤسسة للهوية. يكتب قاسم مقدمته من موقع المسؤولية السياسية والعسكرية، لا من برج أكاديمي، وهو ما يمنح كلماته وزنا خاصا.
يقول في مقدمته: إن “التاريخ اليمني، حين يُقرأ قراءة علمية، يكشف بوضوح أن الوحدة كانت هي القاعدة، وأن الانقسام لم يكن سوى حالة طارئة فرضتها ظروف داخلية وخارجية”.
هذه الجملة وحدها تكفي لتفنيد كثير من الخطابات اللاحقة التي تحاول تصوير التشطير بوصفه تعبيراً عن “خصوصيات تاريخية” أو “مسارات مختلفة”.
ويضيف مقبل في موضع آخر أن “تشويه الوعي بالتاريخ أخطر من تقسيم الأرض، لأن الأرض يمكن أن تُستعاد، أما الوعي المشوه فيصنع أجيالا ترى في الانقسام قدراً”. هنا لا يقدم الوزير قراءة تاريخية فحسب، بل يضع إصبعه على جوهر المعركة: معركة الوعي، لا معركة الخرائط.
الأهم في هذه المقدمة أنها صادرة عن مسؤول جنوبي رفيع في دولة الجنوب، ما يجعلها شهادة سياسية ضد كل محاولات الاحتكار اللاحقة لفكرة الوحدة وفرضها بالقوة، أو تصويرها كمشروع “شمالي” مرفوض، وجب الانسلاخ عنها بالقوة.
المقدمة تقول بوضوح إن الوحدة، في أصلها، قضية تاريخية يمنية عامة، لا ملكا لسلطة ولا جهة ولا حزب.
الفصل الأول: الوحدة اليمنية في التاريخ القديم
وحدة الجغرافيا والإنسان
يؤسس هذا الفصل للرؤية العامة للكتاب، حيث يربط بين الجغرافيا اليمنية كوحدة متكاملة، وبين تشكل المجتمع اليمني تاريخياً.
يوضح المؤلف في هذا الفصل، أن الجبال والسهول والسواحل شكلت نظاماً جغرافياً واحداً متفاعلاً. ونسجت طرق التجارة، والهجرات الداخلية، والعلاقات القبلية والرعوية، شبكة تواصل مستمرة بين مختلف مناطق اليمن.
ويقدّم قسماً عن مؤشرات الاندماج الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات اليمنية عبر التاريخ (تنقل البضائع، تبادل الثقافات، المشترك اللغوي).
هذا الفصل يجهّز القارئ لفهم الوحدة ليس كاختراع سياسي بل كظاهرة حياتية مستمرة. ويخلص إلى أن الجغرافيا لم تكن يوما عامل فصل، بل عنصر توحيد.
تفكيك الانقسام من جذوره
ينطلق سيف علي مقبل في كتابه من فكرة تبدو بسيطة، لكنها في الواقع شديدة الراديكالية: أن الانقسام اليمني ليس نتيجة طبيعية للتاريخ، بل انحراف عنه.
فلا يكتب المؤلف بنبرة خطابية، ولا يسعى إلى إثبات أطروحته عبر الشعارات، بل عبر تتبع طويل لمسار اليمن عبر الجغرافيا، والدولة، والمجتمع. إذ يؤكد في مقدمة كتابه أن “الوحدة في اليمن لم تكن يوما قرارا سياسيا معاصرا، بل حقيقة تاريخية سبقت الدولة الحديثة بقرون”. ومن هنا يبدأ مشروعه في تفكيك كل السرديات التي حاولت لاحقا – ولا زالت- شرعنة التفكك عبر التاريخ.
المكان الذي يرفض الانقسام
يعطي المؤلف للجغرافيا مكانة تأسيسية في تحليله. فاليمن، كما يراه، ليس رقعة يمكن تقطيعها إدارياً دون أن تنكسر بنيتها الاجتماعية.
الجبال، في قراءته، لم تكن حواجز فصل، بل ممرات تفاعل، والسواحل لم تكن حدودا نهائية، بل بوابات اتصال. ويكتب بوضوح أن “الجغرافيا اليمنية صنعت عبر التاريخ وحدة اقتصادية واجتماعية يصعب تفكيكها دون تدخل قسري”.
هذه القراءة تكتسب راهنية استثنائية اليوم، في ظل محاولات إعادة ترسيم اليمن على أسس أمنية أو نفطية أو طائفية أو جهوية، متجاهلة حقيقة أن المكان نفسه يقاوم هذه الخرائط المصطنعة.
في تناوله لتاريخ الدول اليمنية القديمة (سبأ، أوسان، حضرموت، معين، قتبان، حمير)، يرى مقبل، أن تعدد الممالك لم يكن مرادفا للتجزئة القومية أو الهويات المنفصل. وأن الكيانات السياسية كانت تتحرك داخل إطار حضاري وثقافي واحد. فيبين كيف أن مظاهر الاحتكام المشترك (الكتابة، الطقوس، التجارة) تشكل أرضية حضارية واحدة.
ويرى أن الدولة الحميرية تمثل ذروة التوحيد السياسي لليمن القديم. وأن مفهوم “اليمن” كان حاضراً كوحدة حضارية قبل تشكل الدولة الحديثة بقرون.
ويفرد مقبل مساحة واسعة لتحليل الممالك اليمنية القديمة، ليؤكد أن التعدد السياسي لم يكن مرادفاً للتشظي الهوياتي.
ويشير نصاً إلى أن “الصراع بين الممالك اليمنية كان صراعاً على السلطة داخل إطار حضاري واحد، لا صراع هويات متناحرة”.
هذه الفكرة أساسية، لأنها تنسف محاولات إسقاط مفهوم “الدول المتعددة” في التاريخ القديم على مشاريع الانفصال الحديثة، التي تتجاهل الفارق بين التنوع السياسي داخل هوية جامعة، وبين التفكك القومي.
الفصل الثاني: الوحدة اليمنية في العصور الوسطى
يناقش هذا الفصل وضع اليمن بعد الإسلام، حيث يبين، أن اليمن ظل إقليماً واحداً في الوعي السياسي والإداري العام. وأن الانقسامات التي ظهرت كانت مرتبطة بصراعات سلطة داخلية، لا بانقسام الهوية. فالأئمة والسلاطين حكموا اليمن كوحدة، حتى في ظل تعدد مراكز النفوذ.
ويشدد المؤلف على أن الانقسام المذهبي لم يؤسس لانقسام جغرافي أو قومي.
ويفرق بذكاء بين تعدد سلاطين ومراكز نفوذ من جهة، والوعي الجمعي باليمن كوحدة تاريخية من جهة أخرى.
بداية الكسر العنيف
يتابع الكتاب مساره عبر العصور الإسلامية، مؤكداً أن اليمن ظل يدار – رغم التعدد – كوحدة إقليمية في الوعي العام. لكن الكسر الحقيقي، كما يرى المؤلف، يبدأ مع التدخل الخارجي المنظم. ويكتب بوضوح أن “الاستعمار لم يكتف باحتلال الأرض، بل عمل على إعادة تشكيل البنية السياسية والإدارية بما يخدم استدامة الانقسام”.
هذا التحليل يفتح الباب لقراءة سياسية راهنة، إذ إن كثيراً من مشاريع التفكيك الحالية تعيد إنتاج الأدوات ذاتها، ولكن بواجهات محلية.
الفصل الثالث: الدولة المركزية اليمنية في القرن السابع عشر الميلادي
ينتقل سيف علي مقبل في هذا الفصل من تتبع الوحدة اليمنية بوصفها حقيقة تاريخية وحضارية، إلى دراستها بوصفها تجربة سياسية متحققة.
فالقرن السابع عشر الميلادي، كما يقدمه المؤلف، شهد قيام دولة يمنية مركزية استطاعت أن تبسط نفوذها على معظم المجال اليمني، وأن تدير هذا المجال كوحدة سياسية واحدة، لا كمجموعة أقاليم متجاورة أو سلطات متنافرة.
يركز المؤلف على تجربة الدولة القاسمية بوصفها لحظة استعادة للدولة بعد مرحلة من التدخل الخارجي. غير أن أهمية هذه التجربة لا تكمن فقط في طرد العثمانيين، بل في ما أعقب ذلك من جهد سياسي داخلي لإعادة تنظيم اليمن ضمن سلطة مركزية.
فالتحرير، في قراءة مقبل، لم يكن نهاية الصراع، بل بدايته الفعلية، إذ واجه اليمنيون تحدي بناء الدولة بعد زوال السلطة الخارجية.
من استعادة السيادة إلى تنظيم السلطة
يوضح الفصل، أن القيادة القاسمية أدركت مبكراً أن غياب الدولة المركزية يعني العودة إلى التفكك والصراع الداخلي. لذلك، عملت على إعادة تنظيم شؤون الحكم، وربط الأقاليم المختلفة بمرجعية سياسية واحدة.
تجلى ذلك في تنظيم الجباية، وتوحيد القضاء، وتعيين الولاة، وضبط العلاقة بين المركز والأطراف. ولم تكن هذه الإجراءات شكلية، بل مثلت ممارسة فعلية للسلطة، سمحت للدولة بالاستمرار وفرض النظام في مساحة واسعة من البلاد.
ويمضي المؤلف في بيان أن امتداد نفوذ الدولة إلى تهامة، وسيطرتها على الموانئ الحيوية، يعكس اكتمال مفهوم السيادة السياسية. فالموانئ لم تكن مجرد موارد اقتصادية، بل عناصر أساسية في تثبيت وحدة القرار وربط الداخل اليمني بالعالم الخارجي ضمن إطار دولة واحدة.
المركزية في مواجهة سرديات التفكك
لا يقدم مقبل الدولة القاسمية بوصفها نموذجاً مكتملاً أو خالياً من التناقضات، لكنه يستخدمها بوصفها دليلاً تاريخياً على أن اليمن عرف الدولة المركزية قبل العصر الحديث.
ويؤكد أن التعدد القبلي والجغرافي لم يكن عائقاً بنيوياً أمام قيام الدولة، بل تحدياً سياسياً جرى التعامل معه ضمن سياق تاريخي محدد.
وتكتسب هذه الخلاصة أهمية خاصة في سياق الكتاب العام، لأنها تفند الأطروحات التي تزعم أن الوحدة اليمنية مشروع طارئ، أو خيار سياسي حديث. فالتجربة القاسمية، كما يعرضها هذا الفصل، تثبت أن المركزية كانت، في لحظة من التاريخ اليمني، شرطاً للاستقرار، لا نقيضاً له.
وبهذا المعنى، يشكل هذا الفصل حلقة وصل بين الفصول السابقة التي تثبت وحدة اليمن في التاريخ والوعي، والفصول اللاحقة التي ترصد لحظة الكسر مع التدخل الاستعماري.
فهو يبين أن التفكك لم يكن قدراً تاريخياً، بل نتيجة مسار سياسي طارئ، وأن اليمن، حين امتلك شروطه الذاتية، استطاع أن ينتج دولة جامعة تدير التنوع بدل أن تنفجر به.
الفصل الرابع: دور الاستعمار البريطاني والعثماني في تشطير اليمن إلى شطرين:
جذور التفكيك
يعد هذا الفصل من أكثر فصول الكتاب أهمية، إذ يربط بين التدخل الخارجي وبداية التشظي السياسي الحديث. ويوضح المؤلف، أن العثمانيين، ثم البريطانيين لاحقا، أسسوا لإدارات منفصلة تخدم مصالحهم. كما عمق الاستعمار البريطاني في الجنوب سياسة “التجزئة الإدارية” وربطها بتسميات جديدة.
ويرى، أن الانقسام لم يكن نتاج تطور داخلي طبيعي، بل سياسة مقصودة لإضعاف اليمن.
ويعرض كيف أن إقامة مؤسسات إدارية منفصلة في الجنوب والاشتغال على بنى استيطانية خلقت مفاصل تفكك سياسي. فهذا الفصل يربط مباشرة بين انتهاج الاستعمار للتقسيم وبين مشكلة الانفصال.
اليمن الحديث والانقسام السياسي
يركز الكاتب على مرحلة ما بعد خروج الاستعمار، حيث يناقش، قيام دولتين في الشمال والجنوب بوصفه نتيجة مباشرة للإرث الاستعماري والحرب الباردة.
ويتناول بالتحليل الصراع الأيديولوجي الذي غطى على الجذور التاريخية المشتركة. وفشل مشاريع الانفصال في إنتاج هوية مستقلة متماسكة. ويرى المؤلف أن هذا الانقسام كان استثناءً تاريخيا لا قاعدة.
ويبحث في كيف أن الصراع الايديولوجي بين القاهرة – صنعاء، والدوائر الإقليمية والدولية دفع لتمثلات سياسية فصلت بين الشطرين.
ويحلل النقاشات حول الهوية والشرعية ودور الجهات الخارجية في ترسيخ الانقسام السياسي.
الوحدة اليمنية كضرورة تاريخية
يصل الكتاب في فصله الأخير هذا، إلى خلاصة فكرية واضحة، مفادها أن الوحدة ليست خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة تاريخية جغرافية. وأن أي مشروع سياسي يتجاهل هذه الحقيقة محكوم بالفشل.
ويشدد على أن استعادة الوعي التاريخي شرط أساسي لبناء دولة يمنية مستقرة.
ويختتم الكتاب، بدعوة لاستعادة الذاكرة التاريخية كأداة مقاومة للتفكك، ويعرض آليات ممكنة لبناء مشروع سياسي قومي يستند إلى الجذور التاريخية المشتركة وتجاوز إرث الاستعمار، بقراءة التاريخ بعيدا عن التوظيف السياسي الآني.
التشطير في القرن العشرين: السياسة حين تعاكس التاريخ
يتعامل سيف علي مقبل مع التشطير بوصفه لحظة سياسية استثنائية لا يمكن قراءتها بمعزل عن سياقها الدولي والإقليمي.
فهو يرفض اختزال قيام دولتين في شمال اليمن وجنوبه إلى “اختيار تاريخي” أو “مسار طبيعي”، ويربطه مباشرة بتفاعلات الحرب الباردة، وبالصراع على النفوذ في منطقة شديدة الحساسية.
يكتب المؤلف بوضوح أن “قيام كيانين سياسيين في اليمن لم يكن نتاج تطور داخلي متدرج، بل نتيجة مباشرة لتدخلات خارجية وصراعات ايديولوجية عابرة للحدود”.
في هذا السياق، يلفت مقبل إلى أن الانقسام السياسي لم ينجح، رغم حدته، في إنتاج مجتمعين منفصلين أو هويتين متعارضتين. فالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وحركة الناس، وبقاء الذاكرة المشتركة، كلها عوامل ظلت تعمل في الاتجاه المعاكس للتشطير.
ويؤكد أن “الدولة المنقسمة لم تستطع أن تلغي وحدة المجتمع، مهما بلغت قوة الخطاب الايديولوجي”.
هذه القراءة تكتسب أهمية خاصة اليوم، لأنها تذكر بأن فشل التشطير السابق في إنتاج واقع مستقر لا يعود إلى أخطاء إدارية فقط، بل إلى تعارضه البنيوي مع التاريخ الاجتماعي لليمن.
من الوحدة السياسية إلى أزمة ما بعد الوحدة
ورغم أن الكتاب صدر قبل إعلان الوحدة اليمنية عام 1990، فإن أطروحاته تبدو وكأنها تستشرف أزمات ما بعدها. فمقبل لا يتعامل مع الوحدة بوصفها نهاية الصراع، بل يحذر ضمنيا من اختزالها في إجراء سياسي أو اتفاق نخبوي. وهو يكتب أن “الوحدة التي لا تُبنى على فهم تاريخي عميق، ولا تصان بالعدالة والشراكة، تبقى مهددة بالانتكاس”.
هذه العبارة، حين تُقرأ اليوم، تبدو كتعليق مباشر على مسار الدولة اليمنية بعد 1990، حيث تحولت الوحدة من مشروع تاريخي جامع إلى ساحة للهيمنة والصراع السياسي المفتوح، ثم إلى عبء يُحمَّل له فشل السلطة، بدل أن يكون إطاراً لإصلاحها. وهنا يتقاطع التاريخ مع السياسة الراهنة بشكل فادح.
القراءة السياسية الراهنة: عودة التفكيك بأقنعة جديدة
إذا كان التشطير القديم قد قام على حدود واضحة ودول معلنة، فإن مشاريع التفكيك الراهنة أكثر تعقيدا وخطورة. فهي لا ترفع دائما شعار الانفصال الصريح، بل تتسلل عبر خطاب “الخصوصيات”، و “الإدارات الذاتية”، و”الحقوق التاريخية”، وتستثمر في المظلومية أكثر مما تستثمر في الوقائع.
من هذه الزاوية، يبدو كتاب “وحدة اليمن تاريخيا” وكأنه نص مضاد لكل هذا الخطاب. فالمؤلف يفكك منذ البداية فكرة “الخصوصية المنفصلة”، ويؤكد أن التنوع اليمني كان دائما عنصر إثراء داخل وحدة أوسع، لا مبررا للانقسام.
ويقول: إن “التنوع الاجتماعي والمناطقي في اليمن لم يكن يوما سببا للتفكك، بل كان مصدر قوة حين يدار ضمن إطار وطني جامع”.
في الواقع الراهن، حيث تعاد صياغة الهويات المحلية بوصفها بدائل عن الهوية الوطنية، يقدم الكتاب ذخيرة فكرية مضادة، تذكّر بأن تحويل الهويات الفرعية إلى مشاريع سياسية مستقلة هو، في جوهره، إعادة إنتاج لسياسات الاستعمار القديمة بأدوات محلية.
الاستعمار الجديد: حين تتكرر الأدوات ويتغير الخطاب
أحد أكثر جوانب الكتاب راهنية هو تحليله للاستعمار لا بوصفه حدثاً منتهياً، بل بوصفه نمطاً من السيطرة يعيد إنتاج نفسه. فمقبل لا يحصر الاستعمار في الوجود العسكري المباشر، بل يراه في إعادة رسم الإدارات، وفي تفكيك الاقتصاد الوطني، وفي دعم كيانات ضعيفة متناحرة. ويشير بوضوح إلى أن “تفكيك الدولة الوطنية هو المدخل الأسهل لإدامة السيطرة الخارجية”.
حين نضع هذا التحليل في سياق اليمن اليوم، تتضح خطورته. فما يجري ليس صراعاً داخلياً صرفاً، بل تداخلاً معقداً بين قوى محلية ومشاريع إقليمية ودولية، تجد في التفكك فرصة لإدارة النفوذ بأقل كلفة. وهنا يعود الكتاب ليؤكد أن المعركة ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل معرفية بالدرجة الأولى.
وحدة التاريخ في مواجهة خطاب القوة
في مواجهة خطاب القوة والسلاح، يطرح سيف علي مقبل خطاب التاريخ. فهو لا يزعم أن التاريخ وحده قادر على حل الأزمات، لكنه يرى أن تجاهله يفتح الباب للفوضى. ويكتب في خاتمة كتابه أن “الأمم التي تفقد ذاكرتها التاريخية تصبح أكثر قابلية للتلاعب بمصيرها”.
هذه الخلاصة تتجاوز اليمن، لكنها فيه أكثر إلحاحاً. فالتاريخ اليمني، كما يقدمه الكتاب، ليس سرداً للماضي، بل خريطة تحذير للمستقبل. وكل مشروع سياسي يتجاهل هذه الخريطة محكوم عليه إما بالفشل، أو بإغراق البلاد في صراعات لا تنتهي.
التاريخ بوصفه موقفا
ليس “وحدة اليمن تاريخيا” كتاباً محايداً بالمعنى البارد للكلمة، لكنه أيضا ليس بياناً أيديولوجياً. إنه كتاب يتخذ موقفاً واضحاً لصالح وحدة التاريخ والمجتمع، لا وحدة السلطة. ومن هنا تأتي قيمته اليوم، في لحظة يُعاد فيها إنتاج الانقسام بأشكال أكثر تعقيدا مما عرفه اليمن من قبل.
إن قراءة هذا الكتاب اليوم ليست فعل استذكار، بل فعل مقاومة فكرية. مقاومة لوهم أن الانقسام قدر، ولمقولة أن التفكك هو الحل، ولمشاريع تريد لليمن أن يبقى ساحة بلا ذاكرة. وكما كتب سيف علي مقبل قبل عقود، فإن “التاريخ لا يحابي أحداً، لكنه يفضح من يحاول استخدامه ضد الحقيقة”.
بهذا المعنى، لا يقدم الكتاب إجابات جاهزة بقدر ما يقدم معياراً للحكم على كل مشروع سياسي معاصر: هل ينتمي إلى سياق التاريخ اليمني، أم يقف ضده. وفي هذا السؤال وحده تكمن راهنية هذا العمل، وأهميته المستمرة في معركة الوعي اليمني.
السيرة ذاتية لمؤلف كتاب “وحدة اليمن تاريخياً”:
الاسم: سيف علي مقبل
تاريخ الميلاد: 14 مايو 1950م
الجنسية: يمني جنوبي
الخلفية النضالية:
مناضل في صفوف حرب التحرير في الشطر الجنوبي من الوطن اليمني. تعرّض للاعتقال من قبل قوات الاحتلال البريطاني، وأُودِع سجن المربط عام 1965م.
أُصيب بجراح بليغة أثناء مشاركته في إحدى العمليات الفدائية ضد قوات الاستعمار البريطاني في منطقة خور مكسر بتاريخ 25 أغسطس 1967م، وأُعيد اعتقاله لمدة شهرين.
المؤهل العلمي: ماجستير من الاتحاد السوفيتي – 1978م.
الخبرة الأكاديمية: محاضر في التاريخ اليمني بجامعة عدن.
الإنتاج العلمي والفكري:
- دراسات في التاريخ اليمني
- تاريخ الصحافة اليمنية – مطلع القرن العشرين – 1967م
- وحدة اليمن تاريخيا 1987
له أكثر من خمسة وعشرين مؤلفاً وبحثاً منشوراً ومخطوطاً، ومنها:
- موجز تاريخ اليمن: القديم والوسيط والحديث، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء 2015
- دور عدن في الثورة التحررية المسلحة في الشطر الجنوبي من اليمن (1964 – 1967).
- الصراع السياسي في اليمن القديم.
- الصحافة في عدن.
- دراسات في التاريخ اليمني.
- دراسات في التاريخ اليمني المعاصر
توفي في فبراير 2022



